إلي رحمة الله

 

7- العالم والقائد الديني

الشيخ عبد الكريم باريكهـ رحمه الله

 1346-1428هـ = 1928-2007م

 

 

  

 

  

 

 

       في نحو 80 من عمره وافتِ المنيّةُ بمدينة «ناكبور» (Nagpur) بولاية «مهاراشترا» بالهند في الساعة الرابعة إلاّ الربع من الهزيع الأخير من الليلة المتخللّة بين الاثنين والثلاثاء : 27-28/ شعبان 1428هـ الموافق 10-11/ سبتمبر 2007م العالمَ والقائدَ الدينيَّ الهنديَّ المعروفَ الشيخَ عبدَ الكريم باريكهـ . رَحِمَه الله وجَعَلَ الجنةَ العليا مثواه .

       كان الفقيد الغالي من الرجالات المتخرجين في التزكية والإحسان على العالم الداعية المفكر الشيخ السيد أبي الحسن علي الندويّ رحمه الله (1333-1420هـ =1914-1999م) ومن المتشرّبين لروحه القياديّة والفكريّة والدينية ، ومن الدعاة المُوَفَّقِين والخطباء الإسلاميين بالهند الممتازين ، بما كان يجيده إلى جانب اللغة الأردية لغة مسلمي شبه القارة الهنديّة عددًا من اللغات بما فيها الإنجليزيةُ والكجراتيةُ والهندوسيّة والسنسكريتيةُ ؛ فكان يقدر على إقناع المستمعين على اختلاف الديانات واللغات والاتّجاهات . وقلّما كان يدانيه أحد في ذلك من الخطباء والعلماء المسلمين المعاصرين بالهند . ولكونه مُلِمًّا بعدد من اللغات والثقافات كان يقدر على الحوار البنّاء وإيجاد نقاط تواصل مع أصحاب الديانات الأخرى في البلاد ولاسيّما الهندوس الذين كان يكسب بعضَ المثقفين منهم في بعض المناسبات لصالح القضايا الإسلاميّة ، بفضل إجادته اللغة الهندوسيّة السنسكريتية التي ربما لايجيدها إجادتَه حتى بعضُ الهندوس المُتَعَلِّميــن فضلاً عن الأمِّيِّيـن ورجال الشارع منهم .

       المثير للدرس في حياة الشيخ باريكهـ أنّه كان أصلاً تاجرًا بالحطب ، وما كان عالمًا دينيًّا بالمعنى الإصطلاحي المعروف أي متخرجًا في علوم الشريعة في مدرسة أو جامعة مُخَصَّصَة للتعليم الإسلامي والدراسات الشرعيّة ، وإنما مَالَ إلى دراسة معاني القرآن وتراجمها بالأردية والإنجليزيّة ثم ألقى الله في رُوْعِه أن يعقد حلقةً منتظمةً في مسجد يُفَسِّر فيها كتابَ الله بأسلوب مُبَسَّط للعامّة ، فوَاصَلَها طويلاً، فاستفاد منها جماهيرُ المسلمين والمثقفين بالثقافة العصريّة منهم ، وفي الوقت نفسه انْطَلَقَ لسانُه بالتفسير وشرحِ معاني كتاب الله ، وأصبح له في ذلك ميزةٌ ساحرةٌ مُؤَثـِّرةٌ للغاية عُرِفَ بها ، فذاع صيته ، ولمع اسمُه ، وبدأ يتقاطر على حلقته حتى عددٌ من غير المسلمين بما كان ينطق به من لغة خليطة من الأرديّة السهلة والهندوسيّـة المُسَاغَـة لدى العامّة .

       وأثناءَ ذلك سَنَحَتْ له فرصةُ الاتّصال بسماحة الشيخ أبي الحسن الندويّ ، التي فتحت له طريقَ السعادة على مصراعيه ، ثم كثر التقاؤه معه ، وزياراتُه له . وتَوَسَّم الشيخ الندويّ فيه رحلاً مُؤَهَّلاً لما كان ينوي من إطلاق حركة «رسالة الإنسانيّة» التي تَوَخَّى من ورائها إيجادَ فرصِ التفاهم والتقارب والتواصل بين الشعبين المسلم والهندوسيّ في هذه البلادِ التي مصيرهُما فيها مشتـرك مـن حيث المواطنة والسكنى في البلاد ؛ فَوَظَّفَ الشيخُ الندويُّ الشيخَ باريكهـ توظيفًا مجديًا للقيام بهذه المهمّة ، وبدأ يستصحبه في كثير من رحلاته الداخليّة ولاسيما بمناسبة انعقاد حفلات شعبيّة كبيرة يُدْعَى لها المسلمون والهندوس على السواء مِن على منبر حركة «رسالة الإنسانية» أو من غير هذا المنبر. وقد أثـْبَتَ الشيخُ باريكهـ من خلال محاضراته المثمرة جدًّا التي ربما كان يلقيها في اللغة الهندوسيّة والسنسكريتية أو باللغة المزيجة من اللغتين الإنجليــزيــة والهندوسيّــة ، أنـــه رجلٌ مطلوبٌ مُهَيَّأ للغاية التي كان الندوي يحاول تحقيقَها مُتَمَثِّلَةً في إيجاد مناخ ملائم للشعب المسلم الهنديّ للتعايش السلميّ مع الشعب الهندوسي الذي أسكرته النعرات المُتَطَرِّفَة والعَصَبِيَّات الطائفيّة والكراهية الزائدة التي أثارها في قلبه نحوَ المسلمين الزعماءُ الهندوس المُتَطَرِّفون للأغراض السياسيّة الرخيصة .

       ومع الأيّام طَلَعَ الشيخ باريكهـ التاجرُ بالحطب والقائمُ بتفسير القرآن بشكل تطوّعي لصالح العامة ، عالماً دينيًّا ، فأضحى يُعْرَفُ بـ «مولانا عبد الكريم باريكهـ» . وفيما بعد وفاة سماحة الشيخ المقرئ محمد طيب (1315-1403هـ = 1897-1983م) الرئيس السابق للجامعة الإسلامية المعروفة بدارالعلوم / ديوبند والرئيس المؤسس لهيئة الأحوال الشخصية الإسلامية لعموم الهند انتُخِب الشيخ الندوي رئيسًا للهيئة ، وهنا تَكَثَّفَ حضور الشيخ باريكهـ الفاعل في مجالات خدمة قضايا الشعب المسلم الهندي في شرق البلاد وغربها ؛ حيث عُيِّنَ عضوًا تأسيسيًّا فيها وكان جديرًا بذلك . ثم شغل منصب أمين الماليّة في الهيئة . وكلُّ ذلك شَكَّلَ له فرصةً لملازمته للشيخ الندويّ شبه ملازمة الظلّ – إذا صَحَّ التعبيرُ – فاستقى بل عَبَّ من نميره الفكريّ ، وتَغَذَّى من منهله القياديّ ، وتشَرَّب من روح تألّمه لحالة الأمةِ في الهند وفي غير الهند ، حتى وَضَعَ يده في يده وبايعة بيعه المعاهدة على الحياة والموت للدين ولصالحه ، وللدعوة ولنشرها، وللرسالة المحمدية والتغنّي بها ، وللأمة ومصالحها ؛ فتَخَرَّجَ في مدرسته الشاملة التي لن يضيع المُتَخَرِّجُون المُخْلِصُون فيها ولن يَشُذُّوا عن الجادّة المستقيمة مهما شَذَّ الأَدْعِيَاءُ المنافقون .

       وبارك الله في قلم الشيخ باريكهـ كما بارك في لسانه المغسول بالنمير الإسلامي الزكيّ الصافي العذب الزلال ، فألَّفَ عددًا من الكتب في لغات القرآن ومعانيه وتفسيره وفي تعرية مكر اليهود والموضوعات الإصلاحية العديدة التي خاطب من خلالها الرجل والمرأة من المسلمين ، كما جَمَعَ الخطابات التي وَجَّههَا الشيخ الندويّ إليه ردًّا على خطاباته إليه أو بشكل مستقل ، وطبعها في كتاب كثر تداوُله و عَمَّ تناولُه من مُتَذَوِّقي الأدب والفكر الفائضين من قلب الندوي وقلمه . وأَضْفَى الله القبولَ العامَّ على كتابات الشيخ باريكهـ كما أَضْفَى مسحةَ التأثير على ما كان يفيض به لسانُه من الأفكار النيِّرة والمعاني الخيِّرة والحقائق التي كانت تُصَافِح القلوب قبل أن تُلاَمِسَ الأسماعَ والعقولَ . وكان رحمه الله أسَّسَ بمدينته «ناكبور» مؤسسة تعليم القرآن ، وأصدر منها عددًا من مُؤَلَّفاته .

       لقد كان الشيخ باريكهـ نسيج وحده اليوم في التأثير في غير المسلمين من خلال لسانه الطليق الساحر، وإتقانه لمختلف اللغات ، وتوفيقه الدائم للتحدّث بأسلوب تُسِيغه عقولُهم شاؤا أو أبوا ، لقد طَوَى الله بساطَ حياته ؛ ولكنّه سوف لا يَطْوِي – كما هو المأمول من رحمته – بساطَ إنجازاته ، وجلائل أعماله الدعوية ، والقيادية والإصلاحية ، والتوعوية والتفسيريّة ، والتأليفية والخطابية ، التي قام بها وستُخَلِّد ذكرَه ويُعَمِّم اسمَه في الدنيا ، وتَضْمَن له الأدعيةَ من ألسنة الصالحين .

       يُذْكَر أن أولياء أسرته نَزَحُوا من «كجرات» إلى «مهاراشترا» في 1925م وهما ولايتان متجاورتان ، وسكنوا مدينةَ «ناكبور» و وُلِدَ الشيخ باريكهـ في مدينة مهاراشتريّة أخرى وهي «أكوله» في 15/ أبريل 1928م (الأحد: 24/ ذوالقعدة 1346هـ) وتعلّم في المدارس العصريّة الرسميّة ، ثم اشتغل مُوَظَّفًا لدى شركة لإنتاج المنعشات الباردة ، ثم ارتأى أن يشتغل بالتجارة ، فاتّجر بالحطب ، وبارك الله في تجارته ، فصار من كبار التجّار فيه ، ثم اتجه إلى دراسة العلوم الشرعيّة بتوفيق من الله ، فساق الله له السعادة الموفورة .

       وخلّف رحمه الله وراءَه أربعة بنين وخمس بنات . وقد ماتت حرمُه منذ أعوام . ألهم الله جميع أعضاء أسرته الصبر والسلوان وأدخله فسيح جنّاته .

 

*  *  *

*  *

 

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . ذوالحجة 1428هـ = ديسمبر 2007م يناير 2008م ، العـدد : 12 ، السنـة : 31.